ابن عاشور : ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها وادعوه خوفا وطمعا ان رحمت الله قريب من المحسنين عطف النهي عن الفساد في الارض على جمله انه لا يحب المعتدين الاعراف 55 عطفا على طريقه الاعتراض فان الكلام لما انبا عن عنايه الله بالمسلمين وتقريبه اياهم اذ امرهم بان يدعوه وشرفهم بذلك العنوان العظيم في قوله ربكم الاعراف 55 وعرض لهم بمحبته اياهم دون اعدائهم المعتدين اعقبه بما يحول بينهم وبين الادلال على الله بالاسترسال فيما تمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشهويه والغضبيه فانهما تجنيان فسادا في الغالب فذكرهم بترك الافساد ليكون صلاحهم منزها عن ان يخالطه فساد فانهم ان افسدوا في الارض افسدوا مخلوقات كثيره وافسدوا انفسهم في ضمن ذلك الافساد فاشبه موقع الاحتراس وكذلك داب القران ان يعقب الترغيب بالترهيب وبالعكس لئلا يقع الناس في الياس او الامن والاهتمام بدرء الفساد كان مقاما هنا مقتضيا التعجيل بهذا النهي معترضا بين جملتي الامر بالدعاء وفي ايقاع هذا النهي عقب قوله انه لا يحب المعتدين الاعراف 55 تعريض بان المعتدين وهم المشركون مفسدون في الارض وارباء للمسلمين عن مشابهتهم اي لا يليق بكم وانتم المقربون من ربكم الماذون لكم بدعائه ان تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين والافساد في الارض والاصلاح تقدم الكلام عليهما عند قوله تعالى واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون في سوره البقره 11 وبينا هنالك اصول الفساد وحقائق الاصلاح ومر هنالك القول في حذف مفعول تفسدوا مما هو نظير ما هنا و الارض هنا هي الجسم الكروي المعبر عنه بالدنيا والافساد في كل جزء من الارض هو افساد لمجموع الارض وقد يكون بعض الافساد موديا الى صلاح اعظم مما جره الافساد من المضره فيترجح الافساد اذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري الا به فقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير ونهى ابو بكر رضي الله عنه عن قطع شجر العدو لاختلاف الاحوال والبعديه في قوله بعد اصلاحها بعديه حقيقيه لان الارض خلقت من اول امرها على صلاح قال الله تعالى وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها فصلت 10 على نظام صالح بما تحتوي عليه وبخاصه الانسان الذي هو اشرف المخلوقات التي جعلها الله على الارض وخلق له ما في الارض وعزز ذلك النظام بقوانين وضعها الله على السنه المرسلين والصالحين والحكماء من عباده الذين ايدهم بالوحي والخطاب الالهي او بالالهام والتوفيق والحكمه فعلموا الناس كيف يستعملون ما في الارض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النافع وازاله ما في بعض النافع من الضر وتجنب ضر الضار فذلك النظام الاصلي والقانون المعزز له كلاهما اصلاح في الارض لان الاول ايجاد الشيء صالحا والثاني جعل الضار صالحا بالتهذيب او بالازاله وقد مضى في قوله تعالى واذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون في سوره البقره 11 ان الاصلاح موضوع للقدر المشترك بين ايجاد الشيء صالحا وبين جعل الفاسد صالحا فالاصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد وليس في معنى الفعل لانه اريد به اصلاح حاصل ثابت في الارض لا اصلاح هو بصدد الحصول فاذا غير ذلك النظام فافسد الصالح واستعمل الضار على ضره او استبقى مع امكان ازالته كان افسادا بعد اصلاح كما اشار اليه قوله تعالى والذين كفروا بعضهم اولياء بعض الا تفعلوه تكن فتنه في الارض وفساد كبير الانفال 73 والتصريح بالبعديه هنا تسجيل لفظاعه الافساد بانه افساد لما هو حسن ونافع فلا معذره لفاعله ولا مساغ لفعله عند اهل الارض عود الى امر الدعاء لان ما قبله من النهي عن الافساد اشبه الاحتراس المعترض بين اجزاء الكلام واعيد الامر بالدعاء ليبنى عليه قوله خوفا وطمعا قصدا لتعليم الباعث على الدعاء بعد ان علموا كيفيته وهذا الباعث تنطوي تحته اغراض الدعاء وانواعه فلا اشكال في عطف الامر بالدعاء على مثله لانهما مختلفان باختلاف متعلقاتهما والخوف تقدم عند قوله تعالى الا ان يخافا الا يقيما حدود الله البقره 229 والطمع تقدم في قوله افتطمعون ان يومنوا لكم في سوره البقره 75 وانتصاب خوفا وطمعا هنا على المفعول لاجله اي ان الدعاء يكون لاجل خوف منه وطمع فيه فحذف متعلق الخوف والطمع لدلاله الضمير المنصوب في ادعوه والواو للتقسيم للدعاء بانه يكون على نوعين فالخوف من غضبه وعقابه والطمع في رضاه وثوابه والدعاء لاجل الخوف نحو الدعاء بالمغفره والدعاء لاجل الطمع نحو الدعاء بالتوفيق وبالرحمه وليس المراد ان الدعاء يشتمل على خوف وطمع في ذاته كما فسر به الفخر في السوال الثالث لان ذلك وان صح في الطمع لا يصح في الخوف الا بسماجه وفي الامر بالدعاء خوفا وطمعا دليل على ان من حظوظ المكلفين في اعمالهم مراعاه جانب الخوف من عقاب الله والطمعع في ثوابه وهذا مما طفحت به ادله الكتاب والسنه وقد اتى الفخر في السوال الثاني في تفسير الايه بكلام غير ملاق للمعروف عند علماء الامه ونزع به نزعه المتصوفه الغلاه وتعقبه يطول فدونك فانظره ان شئت وقد شمل الخوف والطمع جميع ما تتعلق به اغراض المسلمين نحو ربهم في عاجلهم واجلهم ليدعوا الله بان ييسر لهم اسباب حصول ما يطمعون وان يجنبهم اسباب حصول ما يخافون وهذا يقتضي توجه همتهم الى اجتناب المنهيات لاجل خوفهم من العقاب والى امتثال المامورات لاجل الطمع في الثواب فلا جرم انه اقتضى الامر بالاحسان وهو ان يعبدوا الله عباده من هو حاضر بين يديه فيستحيي من ان يعصيه فالتقدير وادعوه خوفا وطمعا واحسنوا بقرينه تعقيبه بقوله ان رحمه الله قريب من المحسنين وهذا ايجاز وجمله ان رحمه الله قريب من المحسنين واقعه موقع التفريع على جمله وادعوه فلذلك قرنت ب ان الداله على التوكيد وهو لمجرد الاهتمام بالخبر اذ ليس المخاطبون بمترددين في مضمون الخبر ومن شان ان اذا جاءت على هذا الوجه ان تفيد التعليل وربط مضمون جملتها بمضمون الجمله التي قبلها فتغني عن فاء التفريع ولذلك فصلت الجمله عن التي قبلها فلم تعطف لاغناء ان عن العاطف و رحمه الله احسانه وايتاوه الخبر والقرب حقيقته دنو المكان وتجاوره ويطلق على الرجاء مجازا يقال هذا قريب اي ممكن مرجو ومنه قوله انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا المعارج 6 7 فانهم كانوا ينكرون الحشر وهو عند الله واقع لا محاله فالقريب هنا بمعنى المرجو الحصول وليس بقرب مكان ودل قوله قريب من المحسنين على مقدر في الكلام اي واحسنوا لانهم اذا دعوا خوفا وطعما فقد تهياوا لنبذ ما يوجب الخوف واكتساب ما يوجب الطمع لئلا يكون الخوف والطمع كاذبين لان من خاف لا يقدم على المخوف ومن طمع لا يترك طلب المطموع ويتحقق ذلك بالاحسان في العمل ويلزم من الاحسان ترك السيئات فلا جرم تكون رحمه الله قريبا منهم وسكت عن ضد المحسنين رفقا بالمومنين وتعريضا بانهم لا يظن بهم ان يسيئوا فتبعد الرحمه عنهم وعدم لحاق علامه التانيث لوصفف قريب مع ان موصوفه مونث اللفظ وجهه علماء العربيه بوجوه كثيره واشار اليها في الكشاف وجلها يحوم حول تاويل الاسم المونث بما يرادفه من اسمم مذكر او الاعتذار بان بعض الموصوف به غير حقيقي التانيث كما هنا واحسنها عندي قول الفراء وابي عبيده ان قريبا او بعيدا اذا اطلق على قرابه النسب او بعد النسب فهو مع المونث بتاء ولا بد واذا اطلق على قرب المسافه او بعدها جاز فيه مطابقه موصوفه وجاز فيه التذكير على التاويل بالمكان وهو الاكثر قال الله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد هود 83 وقال وما يدريك لعل الساعه تكون قريبا الاحزاب 63 ولما كان اطلاقه في هذه الايه على وجه الاستعاره من قرب المسافه جرى على الشائع في استعماله في المعنى الحقيقي وهذا من لطيف الفروق العربيه في استعمال المشترك ازاله للابهام بقدر الامكان