الوسيط لطنطاوي : ان عده الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والارض منها اربعه حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن انفسكم وقاتلوا المشركين كافه كما يقاتلونكم كافه واعلموا ان الله مع المتقين ثم عادت السوره بعد ذلك الى تكمله الحديث عن احوال المشركين السيئه وعن وجوب مقاتلتهم فقال تعالى ان عده الشهور القوم الكافرين قال صحاب المنار هاتان الايتان عود الى الكلام فى احوال المشركين وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح وسقوط عصبيه الشرك وكان الكلام قبل هاتين الايتين فى قتال اهل الكتاب وما يجب ان ينتهى به من اعطاء الجزيه من قبيل الاستطراد اقتضاه ما ذكر قبله من احكام قتال المشركين ومعاملتهم وقد ختم الكلام فى اهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين افسدت عليهم دينهم المطامع الماليه التى هى وسيله العظمه الدنيويه والشهوات الحيوانيه وانذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامه وجعل هذا الانذار موجها الينا واليهم جميعا والعده فى قوله ان عده الشهور على وزن فعله من العدد وهى بمعنى المعدود قال الراغب العده هى الشئ المعدود قال تعالى وما جعلنا اصحاب النار الا ملائكه وما جعلنا عدتهم الا فتنه للذين كفروا اى وما جعلنا عددهم الا قتنه للذين كفروا والشهور جمع شهر والمراد بها هنا الشهور التى تتالف منها السنه القمريه وهى شهور المحرم وصفر وربيع الاول الخ وهذه الشهور عليها مدار الاحكام الشرعيه وبها يعتد المسلمون فى عبادتهم واعيادهم وسائر امورهم والمراد بقوله يوم خلق السماوات والارض الوقت الذى خلقهما فيه وهو سته ايام كما جاء فى كثير من الايات ومن ذلك قوله تعالى ان ربكم الله الذي خلق السماوات والارض في سته ايام ثم استوى على العرش والمعنى ان عدد الشهور عند الله اى فى حكمه وقضائه اثنا عشر شهرا هى الشهور القمريه التى عليها يدور فلك الاحكام الشرعيه وقوله في كتاب الله اى فى اللوح المحفوظ قال القرطبى واعاده بعد ان قال عند الله لان كثيرا من الاشياء يوصف بانه عند الله ولا يقال انه مكتوب فى كتاب الله كقوله ان الله عنده علم الساعه وقيل معنى في كتاب الله اى فيما كتبه سبحانه واثبته واوجب على عباده العمل به منذ خلق السماوات والارض قال الجمل وقوله في كتاب الله صفه لاثنى عشر وقوله يوم خلق السماوات والارض متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار او بالكتاب ان جعل مصدرا والمعنى ان هذا امر ثابت فى نفس الامر منذ خلق الله الاجرام والازمنه اى ان المقصود من هذه الايه الكريمه بيان ان كون الشهور كذلك حكم اثبته سبحانه فى اللوح المحفوظ منذ اوجد هذا العالم وبينه لانبيائه على هذا الوضع فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور والتزام احكامها ونبذ ما كان يفعله اهل الجاهليه من تقديم بعض الشهور او تاخيرها او الزياده عليها او انتهاك حرمه المحرم منها وقوله حرم جمع حرام كسحب جمع سحاب ماخوذ من الحرمه وذلك لان الله تعالى اوجب على الناس احترام هذه الشهور ونهى عن القتال فيها وقد اجمع العلماء على ان المراد بها ذو القعده وذو الحجه والمحرم ورجب وبذلك تظاهرت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اخرج البخارى عن ابى بكر عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال فى خطبه حجه الوداع " ان الزمان قد استدار كهيئه يوم خلق الله السماوات والارض السنه اثنا عشر شهرا منها اربعه حرم ثلاث متواليات ذو القعده وذو الحجه والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان " وسماه صلى الله عليه وسلم رجب مبضر لان بنى ربيعه بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبا وكانت قبيله مضر تحرم رجبا نفسه لذا قال صلى الله عليه وسلم فيه " ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان " قال ابن كثير وانما كانت الاشهر المحرمه اربعه ثلاث سرد وواحد فرد لاجل اداء مناسك الحج والعمره فحرم قبل الحج شهرا وهو ذو القعده يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذى الحجه لانهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون باداء المناسك وحرم بعده شهرا اخر هو المحرم ليرجعوا فيه الى اقصى بلادهم امنين وحرم رجب فى وسط الحول لاجل زياره البيت والاعمار به لمن يقدم اليه من اقصى جزيره العرب فيزوره ثم يعود الى وطنه امنا واسم الاشاره فى قوله ذلك الدين القيم يعود الى ما شعره الله تعالى من ان عده الشهور ائنا عشر شهرا ومن ان منها اربعه حرم والقيم القائم الثابت المستقيم الذى لا التواء فيه ولا اعوجاج اى ذلك الذى شرعناه لكم من كون عده الشهور كذلك ومن كون منها اربعه حرم هو الدين القويم والشرع الثابت الحكيم الذى لا يقبل التغيير او التبديل لا ما شرعه اهل الجاهليه لانفسهم من تقديم بعض الشهور وتاخير بعضها استجابه لاهوائهم وشهواتهم وارضاء لزعمائهم وسادتهم والضمير المونث فى قوله فلا تظلموا فيهن انفسكم يرى ابن عباس انه يعود على جميع الشهور اى فلا تظلموا فى الشهور الاثنى عشر انفسهم بان تفعلوا فيها شيئا مما نهى الله عن فعله ويدخل فى هذا النهى هتك حرمه الاشهر الاربعه الحرم دخولا اوليا ويرى جمهور العلماء ان الضمير يعود الى الاشهر الاربعه الحرم لانه اليها اقرب لان الله تعالى قد خص هذه الاربعه بمزيد من الاحترام تشريفا لها وقد رجح ابن جرير ما ذهب اليه الجمهور فقال ما ملخصه واولى الاقوال فى ذلك عندى بالصواب قول من قال فلا تظلموا فى الاشهر الاربعه انفسكم باستحلال حرامها فان الله عظمها وعظم حرمتها وعن قتاده ان الله اصطفى صفيا من خلقه اصطفى من الملائكه رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره واطفى من الارض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والاشهر الحرم واصطفى من الايام يوم الجمعه واصطفى من الليالى ليله القدر فعظموا ما عظم الله فانما تعظم الامور بما عظمها الله عند اهل الفهم فان قال قائل فان كان الامر على ما وصفت فقد يكون مباحا لنا ظلم انفسنا فى غيرهن من سائر شهور السنه قيل ليس ذلك كذلك بلذلك حرام علينا فى كل وقت ولكن الله عظم حرمه هولاء الاشهر وشرفهم على سائر شهور لاسنه فخص الذنب فيهن بالتعظيم كما خصهن بالتشريف وذلك نظير قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاه الوسطى ولا شك ان الله قد امرنا بالمحافظه على الصلوات المفروضات كلها بقوله حافظوا على الصلوات ولم يبح ترك المحافظه عليهن بامره بالمحافظه على الصلاه الوسطى ولكنه تعالى زادها تعظيما وعلى المحافظه عليها توكيدا وفى تضييعها تشديدا فكذلك فى قوله منها اربعه حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن انفسكم وقد كانت الجاهليه تعظم هذه الاشهر الحرم وتحرم القتال فيهن حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل ابيه لم يهجه وقال القرطبى لا يقال كيف جعلت بعض الازمنه اعظم حرمه من بعض فانا نقول للبارى تعالى ان يفعل ما شاء ويخص بالفضيله ما يشاء ليس لعمله عله ولا عليه حجر بل يفعل ما ريد بحكمته وقد تظهر فيه الحكمه وقد تخفى وقوله وقاتلوا المشركين كافه كما يقاتلونكم كافه تحريض للمومنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعه وعزيمه صادقه وكلمه كافه مصدر فى موضع الحال من ضمير الفاعل فى قاتلوا او من المفعول وهو لفظ المشركين ومعناها جميعا وقالوا وهذه الكلمه من الكلمات التى لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها ال ولا تعرب الا حالا فهى ملزمه للافراد والتانيث مثل عامه وخاصه اى قاتلوا ايها المومنون المشركين جميعا كما يقاتلونكم هم جيمعا بان تكونوا فى قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين لا مختلفين ولا متخاذيلن وقوله واعلموا ان الله مع المتقين تذييل قصد به ارشادهم الى ما ينفعهم فى قتالهم لاعدائهم بعد امرهم به اى واعلموا ايها المومنون ان الله تعالى مع عباده المتقين بالعون ولانصر والتاييد ومن كان الله معه فلن يغلبه شئ فكونوا ايها المومنين من عباد الله المتقين الذين صانوا انفسهم عن كل ما نهى عنه لتنالوا عونه وتادييده