ابن عاشور : ويسالونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما اوتيتم من العلم الا قليلا وقع هذه الايه بين الاي التي معها يقتضي نظمه ان مرجع ضمير يسالونك هو مرجع الضمائر المتقدمه فالسائلون عن الروح هم قريش وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال قالت قريش ليهود اعطونا شيئا نسال هذا الرجل عنه فقالوا سلوه عن الروح قال فسالوه عن الروح فانزل الله تعالى ويسالونك عن الروح الايه وظاهر هذا انهم سالوه عن الروح خاصه وان الايه نزلت بسبب سوالهم وحينئذ فلا اشكال في افراد هذا السوال في هذه الايه على هذه الروايه وبذلك يكون موقع هذه الايه بين الايات التي قبلها والتي بعدها مسببا على نزولها بين نزول تلك الايات واعلم انه كان بين قريش وبين اهل يثرب صلات كثيره من صهر وتجاره وصحبه وكان لكل يثربي صاحب بمكه ينزل عنده اذا قدم الاخر بلده كما كان بين اميه بن خلف وسعد بن معاذ وقصتهما مذكوره في حديث غزوه بدر من صحيح البخاري روى ابن اسحاق ان قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبه بن ابي معيط الى احبار اليهود بيثرب يسالانهم عن امر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما سلوه عن ثلاثه وذكروا لهم اهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سياتي في سوره الكهف فسالته قريش عنها فاجاب عن اهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سوره الكهف واجاب عن الروح بما في هذه السوره وهذه الروايه تثير اشكالا في وجه فصل جواب سوال الروح عن المسالتين الاخريين بذكر جواب مساله الروح في سوره الاسراء وهي متقدمه في النزول على سوره الكهف ويدفع الاشكال انه يجوز ان يكون السوال عن الروح وقع منفردا اول مره ثم جمع مع المسالتين الاخريين ثاني مره ويجوز ان تكون ايه سوال الروح مما الحق بسوره الاسراء كما سنبينه في سوره الكهف والجمهور على ان الجميع نزل بمكه قال الطبري عن عطاء بن يسار نزل قوله وما اوتيتم من العلم قليلا بمكه واما ما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود انه قال بينما انا مع النبي في حرث بالمدينه اذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح فسالوه عن الروح فامسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا فعلمت انه يوحى اليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال ويسالونك عن الروح الايه فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم ان اليهود لما سالوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي انهم اقرب من قريش الى فهم معنى الروح فانتظر ان ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به ابين مما اجاب به قريشا فكرر الله تعالى انزال الايه التي نزلت بمكه او امره ان يتلوها عليهم ليعلم انهم وقريشا سواء في العجز عن ادراك هذه الحقيقه او ان الجواب لا يتغير هذا والذي يترجح عندي ان فيما ذكره اهل السير تخليطا وان قريشا استقوا من اليهود شيئا ومن النصارى شيئا فقد كانت لقريش مخالطه مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفيه الى الشام لان قصه اهل الكهف لم تكن من امور بني اسرائيل وانما هي من شوون النصارى بناء على ان اهل الكهف كانوا نصارى كما سياتي في سوره الكهف وكذلك قصه ذي القرنين ان كان المراد به الاسكندر المقدوني يظهر انها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم فتعين ان اليهود ما لقنوا قريشا الا السوال عن الروح وبهذا يتضح السبب في افراد السوال عن الروح في هذه السوره وذكر القصتين الاخريين في سوره الكهف على انه يجوز ان يتكرر السوال في مناسبات وذلك شان الذين معارفهم محدوده فهم يلقونها في كل مجلس وسوالهم عن الروح معناه انهم سالوا عن بيان ماهيه ما يعبر عنه في اللغه العربيه بالروح والتي يعرف كل احد بوجه الاجمال انها حاله فيه والروح يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الانساني الذي دلت عليه اثاره من الادراك والتفكير وهو الذي يتقوم في الجسد الانساني حين يكون جنينا بعد ان يمضي على نزول النطفه في الرحم مائه وعشرون يوما وهذا الاطلاق هو الذي في قوله تعالى فاذا سويته ونفخت فيه من روحي ص 72 وهذا يسمى ايضا بالنفس كقوله يا ايتها النفس المطمئنه الفجر 27 ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بامر الهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا الشورى 52 وقوله وروح منه النساء 171 ويطلق لفظ الروح على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل وهو جبريل عليه السلام ومنه قوله نزل به الروح الامين على قلبك الشعراء 193 واختلف المفسرون في الروح المسوول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثه فالجمهور قالوا المسوول عنه هو الروح بالمعنى الاول قالوا لانه الامر المشكل الذي لم تتضح حقيقته واما الروح بالمعنيين الاخرين فيشبه ان يكون السوال عنه سوالا عن معنى مصطلح قراني وقد ثبت ان اليهود سالوا عن الروح بالمعنى الاول لانه هو الوارد في اول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراه لقوله في الاصحاح الاول وروح الله يرف على وجه المياه وليس الروح بالمعنيين الاخرين بوارد في كتبهم وعن قتاده والحسن انهم سالوا عن جبريل والاصح القول الاول وفي الروض الانف ان النبي صلى الله عليه وسلم اجابهم مره فقال لهم هو جبريل عليه السلام وقد اوضحناه في سوره الكهف وانما سالوا عن حقيقه الروح وبيان ماهيتها فانها قد شغلت الفلاسفه وحكماء المتشرعين لظهور ان في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم به يكون الانسان مدركا وبزواله يصير الجسم مسلوب الاراده والادراك فعلم بالضروره ان في الجسم شيئا زائدا على الاعضاء الظاهره والباطنه غير مشاهد اذ قد ظهر بالتشريح ان جسم الميت لم يفقد شيئا من الاعضاء الباطنه التي كانت له في حال الحياه واذ قد كانت عقول الناس قاصره عن فهم حقيقه الروح وكيفيه اتصالها بالبدن وكيفيه انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع اجيبوا بان الروح من امر الله اي انه كائن عظيم من الكائنات المشرفه عند الله ولكنه مما استاثر الله بعلمه فلفظ امر يحتمل ان يكون مرادف الشيء فالمعنى الروح بعض الاشياء العظيمه التي هي لله فاضافه امر الى اسم الجلاله على معنى لام الاختصاص اي امر اختص بالله اختصاص علمم و من للتبعيض فيكون هذا الاطلاق كقوله وكذلك اوحينا اليك روحا من امرنا الشورى 52 ويحتمل ان يكون الامر امر التكوين فاما ان يراد نفس المصدر وتكون من ابتدائيه كما في قوله انما قولنا لشيء اذا اردناه ان نقول له كن فيكون النحل 40 اي الروح يصدر عن امر الله بتكوينه او يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و من تبعيضيه اي الروح بعض مامورات الله فيكون المراد بالروح جبريل عليه السلام اي الروح من المخلوقات الذين يامرهم الله بتبليغ الوحي وعلى كلا الوجهين لم تكن الايه جوابا عن سوالهم وروى ابن العربي في الاحكام عن ابن وهب عن مالك انه قال لم ياته في ذلك جواب ا ه اي ان قوله قل الروح من امر ربي ليس جوابا ببيان ما سالوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه واعلام لهم بان هذا من العلم الذي لم يوتوه والاحتمالات كلها مراده وهي كلمه جامعه وفيها رمز الى تعريف الروح تعريفا بالجنس وهو رسم وجمله وما اوتيتم من العلم الا قليلا يجوز ان تكون مما امر الله رسوله ان يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش او لليهود الذين لقنوهم ويجوز ان يكون تذييلا او اعتراضا فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب والمخاطبون متفاوتون في القليل المستثنى من الموتى من العلم وان يكون خطابا للمسلمين والمراد بالعلم هنا المعلوم اي ما شانه ان يعلم او من معلومات الله ووصفه بالقليل بالنسبه الى ما من شانه ان يعلم من الموجودات والحقائق وفي جامع الترمذي قالوا اي اليهود اوتينا علما كثيرا التوراه ومن اوتي التوراه فقد اوتي خيرا كثيرا فانزلت قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي الايه الكهف 109 واوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال نزلت بمكه وما اوتيتم من العلم الا قليلا فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينه اتاه احبار يهود فقالوا يا محمد الم يبلغنا انك تقول وما اوتيتم من العلم الا قليلا افعنيتنا ام قومك قال كلا قد عنيت قالوا فانك تتلو انا اوتينا التوراه وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله هي في علم الله قليل وقد اتاكم ما ان عملتم به انتفعتم فانزل الله ولو ان ما في الارض من شجره اقلام والبحر يمده من بعده سبعه ابحر ما نفدت كلمات الله ان الله عزيز حكيم لقمان 27 هذا والذين حاولوا تقريب شرح ماهيه الروح من الفلاسفه والمتشرعين بواسطه القول الشارح لم ياتوا الا برسوم ناقصه ماخوذه فيها الاجناس البعيده والخواص التقريبيه غير المنضبطه وتحكيم الاثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي وكلها متفاوته في القرب من شرح خاصاته واماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم وكلها لا تعدو ان تكون رسوما خياليه وشعريه معبره عن اثار الروح في الانسان واذا قد جرى ذكر الروح في هذه الايه وصرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم فما علينا ان نتعرض لمحاوله تعرف حقيقه الروح بوجه الاجمال فقد تهيا لاهل العلم من وسائل المعرفه ما تغيرت به الحاله التي اقتضت صرف السائلين في هذه الايه بعض التغير وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد اهل العلم استعدادا لتجلي بعض ماهيه الروح فلذلك لا نجاري الذين قالوا ان حقيقه الروح يجب الامساك عن بيانها لان النبي امسك عنها فلا ينبغي الخوض في شان الروح باكثر من كونها موجوده فقد راى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم ابو بكر بن العربي في العواصم والنووي في شرح مسلم ان هذه الايه لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لانها نزلت لطائفه معينه من اليهود ولم يقصد بها المسلمون فقال جمهور المتكلمين انها من الجواهر المجرده وهو غير بعيد عن قول بعضهم هي من الاجسام اللطيفه والارواح حادثه عند المتكلمين من المسلمين وهو قول ارسطاليس وقال قدماء الفلاسفه هي قديمه وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم ومعنى كونها حادثه انها مخلوقه لله تعالى فقيل الارواح مخلوقه قبل خلق الابدان التي تنفخ فيها وهو الاصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم فهي موجوده من الازل كوجود الملائكه والشياطين وقيل تخلق عند اراده ايجاد الحياه في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على ان الارواح باقيه بعد فناء اجسادها وانها تحضر يوم الحساب