ابن عاشور : والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجه مما اوتوا ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصه ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجه مما اوتوا ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصه ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون 9 الاظهر ان الذين عطف على المهاجرين الحشر 8 اي والذين تبووا الدار والذين تبووا الدار هم الانصار والدار تطلق على البلاد واصلها موضع القبيله من الارض واطلقت على القريه قال تعالى في ذكر ثمود فاصبحوا في دارهم جاثمين الاعراف 78 اي في مدينتهم وهي حجر ثمود والتعريف هنا للعهد لان المراد بالدار يثرب والمعنى الذين هم اصحاب الدار هذا توطئه لقوله يحبون من هاجر اليهم والتبوء اتخاذ المباءه وهي البقعه التي يبوء اليها صاحبها اي يرجع اليها بعد انتشاره في اعماله وفي موقع قوله والايمان غموض اذ لا يصح ان يكون مفعولا لفعل تبوءوا فتاوله المفسرون على وجهين احدهما ان يجعل الكلام استعاره مكنيه بتشبيه الايمان بالمنزل وجعل اثبات التبوء تخييلا فيكون فعل تبواوا مستعملا في حقيقته ومجازه وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملا مقدرا يدل عليه الكلام تقديره واخلصوا الايمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف علفتها تبنا وماء باردا وقول عبد الله بن الزبعرى يا ليت زوجكك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا اي وممسكا رمحا وهو الذي درج عليه في الكشاف وقيل الواو للمعيه و الايمان مفعول معه وعندي ان هذا احسن الوجوه وان قل قائلوه والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعيا فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخريج ايات القران عليه حتى ادعى ابن هشام في مغني اللبيب انه غير واقع في القران بيقين وتاول قوله تعالى فاجمعوا امركم وشركاءكم يونس 71 ذلك لان جمهور البصريين يشترطون ان يكون العامل في المفعول معه هو العامل في الاسم الذي صاحبه ولا يرون واو المعيه ناصبه المفعول معه خلافا للكوفيين والاخفش فان الواو عندهم بمعنى مع وقال عبد القاهر منصوب بالواو والحق عدم التزام ان يكون المفعول معه معمولا للفعل الا ترى صحه قول القائل استوى الماء والخشبه وقولهم سرت والنيل وهو يفيد الثناء عليهم بان دار الهجره دارهم اووا اليها المهاجرين لانها دار مومنين لا يماثلها يومئذ غيرها وبذلك يتضح ان متعلق من قبلهم فعل تبووا بمفرده وان المجرور المتعلق به قيد فيه دون ما ذكر بعد الواو لان الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمه مقام الفعل السابق لان واو المعيه في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور وفي ذكر الدار وهي المدينه مع ذكر الايمان ايماء الى فضيله المدينه بحيث جعل تبوءهم المدينه قرين الثناء عليهم بالايمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمه الله فيما رواه عنه ابن وهب قال سمعت مالكا يذكر فضل المدينه على غيرها من الافاق فقال ان المدينه تبوئت بالايمان والهجره وان غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرا والذين تبووا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم الايه وجمله يحبون من هاجر اليهم حال من الذين تبوووا الدار وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من اخوه الاسلام اذ احبوا المهاجرين وشان القبائل ان يتحرجوا من الذين يهاجرون الى ديارهم لمضايقتهم ومن اثار هذه المحبه ما ثبت في الصحيح من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف اذ عرض سعد عليه ان يقاسمه ماله وان ينزل له عن احدى زوجتيه وقد اسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نخيلهم وحسبك الاخوه التي اخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والانصار وقوله ولا يجدون في صدورهم حاجه مما اوتوا اريد بالوجدان الادراك العقلي وكنى بانتفاء وجدان الحاجه عن انتفاء وجودها لانها لو كانت موجوده لادركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر ولا ترى الضب بها ينجحر والحاجه في الاصل اسم مصدر الحوج وهو الاحتياج اي الافتقار الى شيء وتطلق على الامر المحتاج اليه من اطلاق المصدر على اسم المفعول وهي هنا مجاز في المارب والمراد واطلاق الحاجه الى المارب مجاز مشهور ساوى الحقيقه كقوله تعالى ولتبلغوا عليها حاجه في صدوركم غافر 80 اي لتبلغوا في السفر عليها المارب الذي تسافرون لاجله وكقوله تعالى الا حاجه في نفس يعقوب قضاها يوسف 68 اي ماربا مهما وقول النابغه ايام تخبرني نعم واخبرها ما اكتم الناس من حاجي واسراري وعليه فتكون من في قوله مما اوتوا ابتدائيه اي ماربا او رغبه ناشئه من فيء اعطيه المهاجرون والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه الحواس الباطنه وذلك كاطلاق القلب على ذلك و ما اوتوا هو فيء بني النضير وضمير صدورهم عائد الى الذين تبووا الدار وضمير اوتوا عائد الى من هاجر اليهم لان من هاجر جماعه من المهاجرين فروعي في ضمير معنى من بدون لفظها وهذان الضميران وان كانا ضميري غيبه وكانا مقتربين فالسامع يرد كل ضمير الى معاده بحسب السياق مثل ما في قوله تعالى وعمروها اكثر مما عمروها في سوره الروم 9 وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سليم على هوازن عدنا ولولا نحن احدق جمعهم بالمسلمين واحرزوا ما جمعوا اي احرز جيش هوازن ما جمعه جيش المسلمين والمعنى انهم لا يخامر نفوسهم تشوف الى اخذ شيء مما اوتيه المهاجرون من فيء بني النضير ويجوز وجه اخر بان يحمل لفظ حاجه على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فان الحاجه بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لانها من الوجدانيات والانفعالات ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم انهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم انهم مفتقرون الى شيء مما يوتاه المهاجرون اي فهم اغنياء عما يوتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم الى شيء مما يوتاه المهاجرون بله ان يتطلبوه وتكون من في قوله تعالى مما اوتوا للتعليل اي حاجه لاجل ما اوتيه المهاجرون او ابتدائيه اي حاجه ناشئه عما اوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجه في نفوسهم وانتفاء اسباب ذلك الوجدان ومناشئه المعتاده في الناس تبعا للمنافسه والغبطه وقد دل انتفاء اسباب الحاجه على متعلق حاجه المحذوف اذ التقدير ولا يجدون في نفوسهم حاجه لشيء اوتيه المهاجرون والايثار ترجيح شيء على غيره بمكرمه او منفعه والمعنى يوثرون على انفسهم في ذلك اختيارا منهم وهذا اعلى درجه مما افاده قوله ولا يجدون في صدورهم حاجه مما اوتوا فلذلك عقب به ولم يذكر مفعول يوثرون لدلاله قوله مما اوتوا عليه ومن ايثارهم المهاجرين ما روي في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا الانصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا لا الا ان تقطع لاخواننا من المهاجرين مثلها واما ايثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن ابي هريره قال اتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اصابني الجهد فارسل في نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم الا رجل يضيف هذا الليله رحمه الله فقام رجل من الانصار هو ابو طلحه فقال انا يا رسول الله فذهب الى اهله فقال لامراته هذا ضيف رسول الله لا تدخريه شيئا فقالت والله ما عندي الا قوت الصبيه قال فاذا اراد الصبيه العشاء فنوميهم وتعالي فاطفئي السراج ونطوي بطوننا الليله فاذا دخل الضيف فاذا اهوى لياكل فقومي الى السراج تري انكك تصلحينه فاطفئيه واريه انا ناكل فقعدوا واكل الضيف وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير قيل نزلت هذه الايه في قصه ابي طلحه وقيل غير ذلك وجمله ولو كان بهم خصاصه في موضع الحال و لو وصليه وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حاله لا يظن حصول الجواب عند حصولها والتقدير لو كان بهم خصاصه لاثروا على انفسهم فيعلم ان ايثارهم في الاحوال التي دون ذلك بالاحرى دون افاده الامتناع وقد بينا ذلك عند قوله تعالى فلن يقبل من احدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به في سوره ال عمران 91 والخصاصه شده الاحتياج وتذكير فعل كان لاجل كون تانيث الخصاصه ليس حقيقيا ولانه فصل بين كان واسمها بالمجرور والباء للملابسه وجمله ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون تذييل والواو اعتراضيه فان التذييل من قبيل الاعتراض في اخر الكلام على الراي الصحيح وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح انفسهم بعد قوله ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصه يشير الى ان ايثارهم على انفسهم حتى في حاله الخصاصه هو سلامه من شح الانفس فكانه قيل لسلامتهم من شح الانفس ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون والشح بضم الشين وكسرها غريزه في النفس بمنع ما هو لها وهو قريب من معنى البخل وقال الطيبي الفرق بين الشح والبخل عسير جدا وقد اشار في الكشاف الى الفرق بينهما بما يقتضي ان البخل اثر الشح وهو ان يمنع احد ما يراد منه بذله وقد قال تعالى واحضرت الانفس الشح النساء 128 اي جعل الشح حاضرا معها لا يفارقها واضيف في هذه الايه الى النفس لذلك فهو غريزه لا تسلم منها نفس وفي الحديث في بيان افضل الصدقه ان تصدق وانت صحيح شحيح تخشى الفقر وتامل الغنى ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فاذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه قال وقد احسن وصفه من قال لم اقف على قائله يمارس نفسا بين جنبيه كزه اذا هم بالمعروف قالت له مهلا فمن وقي شح نفسه اي وقي من ان يكون الشح المذموم خلقا له لانه اذا وقي هذا الخلق سلم من كل مواقع ذمه فان وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وقيه واسم الاشاره لتعظيم هذا الصنف من الناس وصيغه القصر الموداه بضمير الفصل للمبالغه لكثره الفلاح الذي يترتب على وقايه شح النفس حتى كان جنس المفلح مقصور على ذلك الموقى ومن المفسرين من جعل والذين تبووا الدار ابتداء كلام للثناء على الانصار بمناسبه الثناء على المهاجرين وهولاء لم يجعلوا للانصار حظا في ما افاء الله على رسوله من اهل القرى وقصروا قوله ما افاء الله على رسوله من اهل القرى الحشر 7 على قرى خاصه هي قريظه وفدك وخيبر والنفع وعرينه ووادي القرى ورووا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افاء الله عليه فيئها قال للانصار " ان شئتم قاسمتم المهاجرين من اموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمه وان شئتم امسكتم اموالكم وتركتم لهم هذا " فقالوا بل نقسم لهم من اموالنا ونترك لهم هذه الغنيمه فنزلت ايه ما افاء الله على رسوله من اهل القرى الايه الحشر 7 ومنهم من قصر هذه الايه على فيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام اي هذه السوره بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الاخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه وعلى هذا التفسير يكون عطف والذين تبووا الدار عطف جمله على جمله واسم الموصول مبتدا وجمله يحبون من هاجر اليهم خبرا عن المبتدا